معارك تحرير المراه

معارك تحرير المرأة‏

د‏.‏ رفعت السعيد

عاشت المرأة المصرية في عصور الحضارة والنهضة أزهي فترات نهضتها‏.‏ ولم تكن مصادفة أن امتلكت كامل حقوقها في أزمنة الازدهار والنهوض أو في أزمنة الانتفاض سعيا لتحرير الوطن‏.‏

ومع بدايات نهضة مصر الحديثة في عصر محمد علي ارتفع صوت ينادي بتحرير المرأة‏.‏ هو صوت الأب الروحي للتقدم الفكري والتحرر والليبرالية الشيخ رفاعة الطهطاوي‏,‏ أو كما سماه أحد تلاميذه أوحد زمانه ونادرة عصره وأوانه‏,‏ المجد في نفع وطنه بنشر المنافع الأمير المعظم رفاعة رافع الطهطاوي‏(‏ صالح بك مجدي ـ حلية الزمن بمناقب خادم الوطن‏),‏ وقد خاض رفاعة معارك تحرير العقل المصري عبر مستويات عدة خاضها معا مدركا أن تحرير الوطن يتطلب نهضة علمية وتحررا عقليا ونهضة مجتمعية وفكرا ليبراليا وتحريرا للمرأة‏.‏

وسنتوقف هنا عند أحد الجوانب المضيئة في معارك الشيخ رفاعة وهو ما يخصنا في هذه الكتابة عن المرأة‏..‏

وقد وهب رفاعة كثيرا من وقته وجهده في نشر التعليم مؤكدا أن التعليم يجب أن يكون عاما لجميع الناس يتمتع به الأغنياء والفقراء علي السواء فهو ضروري لسائر الناس يحتاج إليه كل إنسان كاحتياجه إلي الخبز والماء‏.‏ ولنتذكر أنه بعد أكثر من مائة عام قال د‏.‏ طه حسين قولة مماثلة تماما‏,‏ اعتبر ذلك تجديدا ما بعده تجديد‏.‏ ولأن التعليم يجب أن يكون عاما فإنه يجب أن يشمل المرأة أيضا هكذا يؤكد رفاعة قائلا‏:‏ إن القول بأنه لا ينبغي تعليم النساء الكتابة وأنها مكروهة في حقهن ارتكازا علي النهي عنه في بعض كتب التراث فينبغي ألا ننظر إلي من علل ذلك‏.‏ فقد اقتضت التجربة في كثير من البلدان أن نفع تعليم البنات أكثر من ضرره بل لا ضرر فيه أصلا ودخول المدارس للبنات والغلمان واجب قانونا جرمانيا بل إن أوروبا كلها تعلم البنات والبنين علي قدم المساواة وهذا هو السر في أن بلادهم هي أقوي البلدان‏(‏ رفاعة الطهطاوي ـ المرشد الأمين للبنات والبنين ـ فصل‏:‏ في تشريك البنات مع الصبيان في التعلم والتعليم وكسب العرفان ـ ص‏66).

‏ ثم هو يناقش مسألة الحجاب قائلا‏:‏ إن وقوع اللخبطة بالنسبة لعفة النساء لا يأتي من كشفهن أو سترهن بل ينشأ ذلك من التربية الجيدة أو الخسيسة والتعود علي محبة واحد دون غيره وعدم التشريك في المحبة والالتئام بين الزوجين‏(‏ رفاعة الطهطاوي ـ تخليص الإبريز في تلخيص باريز ـ ص‏305)‏ فقط نلاحظ أنه كتب ذلك منذ أكثر من مائة وستين عاما‏.‏ ونمضي مع رفاعة إذ يطالب بالمساواة للمرأة فيقول‏:‏ إذا أمعن القائل النظر الدقيق في هيئة المرأة والرجل في أي وجه من الوجوه لم يجد إلا فرقا يسيرا يظهر في الذكورة والأنوثة وما يتعلق بهما‏,‏ ثم إن للمرأة ـ بغض النظر عن تباين الجنس ـ صفات أخري تتميز بها عن الرجل‏(‏ المرشد الأمين للبنات والبنين ـ ص‏68).‏ وللمرأة عند رفاعة حقها الكامل في العمل وهو ضروري لتمكينها من استكمال وضعها الاجتماعي والأخلاقي فكل ما تطيقه النساء من العمل يباشرنه بأنفسهن وهو كما قلنا لا يطلب للمرأة حق العمل لمجرد المساواة الشكلية أو مجرد إظهار نزعة تحررية فالعمل ضرورة حتمية‏,‏ ذلك أنه كما يؤكد رفاعة يشغل النساء عن البطالة‏,‏

فإن فراغ أيديهن من العمل يشغل ألسنتهن بالأباطيل وقلوبهن بالأهواء وافتعال الأقاويل ويواصل رفاعة دفاعه عن حق المرأة في العمل مؤكدا أن العمل بذاته ينهض بعقلية المرأة وبأخلاقياتها فيقول‏:‏ إن العمل يصون المرأة عما لا يليق بها ويقربها من

الفضيلة‏,‏ فإن اليد الفارغة تسارع إلي الشر والقلب الفارغ يسارع إلي الإثم‏(‏ تخليص الإبريز ـ ص‏201).‏

وهو يكرر تأكيده مساواة المرأة بالرجل فيورد ترجمة للدستور الفرنسي وتأتي في مواده الالتزامات التالية‏:‏
‏
‏ سائر الفرنساوية متساوون قدام القانون‏.‏
‏
كل واحد منهم متأهل لأي منصب كان أو أية رتبة كانت‏.(‏ تخليص الإبريز ـ ص‏148).

وهو لا يمل من أن يشير في كل مرة إلي أن المساواة تعني مساواة المرأة بالرجل‏.‏

ورفاعة ليس مجرد مثقف أو كاتب تنويري ومستنير‏,‏ لكنه إذ يؤمن بما ينادي به يلتزم التزاما كاملا بتنفيذه‏.‏ فهو إذ يتزوج من ابنة خاله السيدة كريمة‏,‏ يضرب مثلا نادرا في الالتزام بما يقول من تجديد وتحرر ومساواة بين المرأة والرجل‏.‏ فيحرر لها تعهدا كتابيا لم يزل محفوظا حتي الآن بين ما تركه من أوراق يقول فيه نصا التزم كاتب هذه الأحرف رفاعة بدوي رافع لبنت خاله المصون الحاجة كريمة بنت العلامة الشيخ محمد الفرغلي الأنصاري أنه يبقي معها وحدها علي الزوجية دون غيرها من زوجة أخري ولا جارية أيا كانت‏,‏ وعلق عصمتها علي أخذ غيرها من نساء‏,‏ أو تمتع بجارية أخري‏.‏ فإن تزوج بزوجة أيا ما كانت‏,‏ كانت بنت خاله بمجرد العقد طالقة بالثلاثة وكذلك إذا تمتع بجارية ملك يمين‏.‏ لكنه أوعدها وعدا صحيحا لا ينتقض ولا يحل أنها مادامت معه علي المحبة المعهودة مقيمة‏,‏ وعلي الأمانة والعهد لبيتها ولأولادها ولخدمها وجوارها ساكنة معه في محل سكناه لا يتزوج بغيرها أصلا‏,‏ ولا يتمتع بجوار أصلا‏,‏ ولا يخرجها من عصمته حتي يقضي الله لأحد منهما بقضائه‏.‏

ونتوقف أمام هذه الوثيقة المثيرة للدهشة والاحترام معا‏.‏ فالشيخ رفاعة يحدد فيها واجبات الزوجة وهي‏:‏ الأمانة والعهد لبيتها وأولادها وخدمها وهو بذلك يستكمل منظومة المساواة‏.‏ وفي الوقت نفسه يعطي الزوجة حق الخلع إذا تزوج زوجها بأخري أو تمتع بجارية ملك يمين‏.‏ وهو يحدد ذلك كله طواعية وكتابة وكأنه كان يعرف أن زمنا مظلما سيأتي تخيم فيه غيامات من قهر المرأة وحرمان الزوجة من أبسط حقوقها فيقدم نموذجا يستحق الاقتداء‏.‏

وهكذا ومع نهوض الوطن‏,‏ في أول خطاه نحو بناء مصر الحديثة كان رفاعة الطهطاوي ينبت في تربة مصر زهورا رائعة تتمثل في منظومة تعليمية حديثة وحركة ترجمة واسعة‏,‏ وفهم تجديدي لأمور الدين‏,‏ وأيضا دعوة مستنيرة لتحرير المرأة وإقرار بحقها في التعليم والعمل وفي المساواة ثم يضع لها مع ذلك عقدا نموذجيا مكتوبا للعلاقة بينها وبين الزوج‏.‏

ويبقي أن نواصل رحلتنا مع حركة تحرير المرأة في مصر مؤكدين مرة تلو الأخري أن نهضة المجتمع وتقدمه ترتبط ارتباطا وثيقا بنهضة المرأة ومساواتها مع الرجل في مختلف الحقوق‏.‏

عن صحيفة الاهرام المصرية
23/2/2008